فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً}
هذا شروع في بيان حال المؤمنين، وما أعدّ الله لهم من الخير بعد بيان حال الكافرين، وما أعدّ الله لهم من الشرّ، والمفاز مصدر بمعنى الفوز، والظفر بالنعمة، والمطلوب، والنجاة من النار، ومنه قيل: للفلاة مفازة تفاؤلاً بالخلاص منها.
ثم فسّر سبحانه هذا المفاز فقال: {حَدَائِقَ وأعنابا} وانتصابهما على أنهما بدل من {مفازاً} بدل اشتمال، أو بدل كلّ من كل على طريق المبالغة بجعل نفس هذه الأشياء مفازة، ويجوز أن يكون النصب بإضمار أعني، وإذا كان {مفازاً} بمعنى الفوز، فيقدر مضاف محذوف أي: فوز حدائق، وهي جمع حديقة: وهي: البستان المحوّط عليه، والأعناب جمع عنب أي: كروم أعناب {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} الكواعب جمع كاعبة: وهي الناهدة، يقال: كعبت الجارية تكعب تكعيباً وكعوباً، ونهدت تنهد نهوداً، والمراد أنهم نساء كواعب تكعبت ثديهن وتفلكت أي: صارت ثديهنّ كالكعب في صدورهنّ.
قال الضحاك: الكواعب العذارى.
قال قيس بن عاصم:
وكم من حصان قد حوينا كريمة ** وكم كاعب لم تدر ما البؤس معصر

وقال عمر بن أبي ربيعة:
وكان مجنى دون ما كنت أتقي ** ثلاث شخوص كاعبات ومعصر

والأتراب: الأقران في السنّ، وقد تقدّم تحقيقه في سورة البقرة {وَكَأْساً دِهَاقاً} أي: ممتلئة.
قال الحسن، وقتادة، وابن زيد: أي: مترعة مملوءة، يقال أدهقت الكأس أي: ملأتها، ومنه قول الشاعر:
ألا أسقني صرفا سقاك الساقي ** من مائها بكأسك الدهاق

وقال سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد: {دِهَاقاً} متتابعة يتبع بعضها بعضاً.
وقال زيد بن أسلم: {دِهَاقاً} صافية، والمراد بالكأس الإناء المعروف، ولا يقال له الكأس إلاّ إذا كان فيه الشراب {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً} أي: لا يسمعون في الجنة لغواً، وهو الباطل من الكلام، ولا كذاباً أي: ولا يكذب بعضهم بعضاً.
قرأ الجمهور {كذاباً} بالتشديد، وقرأ الكسائي هنا بالتخفيف، ووافق الجماعة على التشديد في قوله: {وكذبوا بآياتنا كذاباً} المتقدم في هذه السورة للتصريح بفعله هناك، وقد قدّمنا الخلاف في {كذاباً} هل هو من مصادر التفعيل، أو من مصادر المفاعلة؟ {جَزَاء مّن رَّبّكَ} أي: جازاهم بما تقدّم ذكره جزاء.
قال الزجاج: المعنى جزاهم جزاء، وكذا {عَطَاء} أي: وأعطاهم عطاء {حِسَاباً} قال أبو عبيدة: كافياً.
وقال ابن قتيبة: كثيراً، يقال أحسبت فلاناً أي: أكثرت له العطاء، ومنه قول الشاعر:
ونعطي وليد الحي إن كان جائعا ** ونحسبه إن كان ليس بجائع

قال ابن قتيبة: أي: نعطيه حتى يقول حسبي.
قال الزجاج: حساباً أي: ما يكفيهم.
قال الأخفش: يقال أحسبني كذا أي: كفاني.
قال الكلبي: حاسبهم، فأعطاهم بالحسنة عشراً.
وقال مجاهد: حساباً لما عملوه، فالحساب بمعنى القدر أي: يقدّر ما وجب له في وعد الربّ سبحانه، فإنه وعد للحسنة عشراً، ووعد لقوم سبعمائة ضعف، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار كقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وقرأ أبو هاشم {حساباً} بفتح الحاء، وتشديد السين أي: كفافاً.
قال الأصمعي: تقول العرب: حسبت الرجل بالتشديد: إذا أكرمته، ومنه قول الشاعر:
إذا أتاه ضيفه يحسبه

وقرأ ابن عباس {حساناً} بالنون {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن}.
قرأ ابن مسعود، ونافع، وأبو عمرو، وابن كثير، وزيد عن يعقوب، والمفضل عن عاصم برفع {ربّ} و{الرحمن} على أن {ربّ} مبتدأ، و{الرحمن} خبره، أو على أن {ربّ} خبر مبتدأ مقدّر أي: هو ربّ، و{الرحمن} صفته، و{لا يملكون} خبر {ربّ}، أو على أن {ربّ} مبتدأ، و{الرحمن} مبتدأ ثان، و{لا يملكون} خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأوّل.
وقرأ يعقوب في رواية عنه، وابن عامر، وعاصم في رواية عنه بخفضهما على أن {ربّ} بدل من {ربك}، و{الرحمن} صفة له.
وقرأ ابن عباس، وحمزة، والكسائي بخفض الأوّل على البدل، ورفع الثاني على أنه خبر متبدأ محذوف أي: هو الرحمن، واختار هذه القراءة أبو عبيد وقال هذه القراءة أعدلها، فخفض {ربّ} لقربه من {ربك}، فيكون نعتاً له، ورفع {الرحمن} لبعده منه على الاستئناف، وخبره {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} أي: لا يملكون أن يسألوا إلاّ فيما أذن لهم فيه.
وقال الكسائي: {لا يملكون} منه خطاباً بالشفاعة إلاّ بإذنه، وقيل: الخطاب الكلام أي: لا يملكون أن يخاطبوا الربّ سبحانه إلاّ بإذنه، دليله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود: 105] وقيل: أراد الكفار، وأما المؤمنون فيشفعون. ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال على ما تقدّم بيانه، ويجوز أن تكون مستأنفة مقرّرة لما تفيده الربوبية من العظمة والكبرياء.
{يوم يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} الظرف منتصب بـ: {لا يتكلمون}، أو بـ: {لا يملكون}، و{صفّاً} منتصب على الحال أي: مصطفين، أو على المصدرية أي: يصفون صفاً، وقوله: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ} في محل نصب على الحال، أو مستأنف لتقرير ما قبله.
واختلف في الروح؛ فقيل: إنه ملك من الملائكة أعظم من السماوات السبع، ومن الأرضين السبع، ومن الجبال، وقيل: هو جبريل قاله الشعبي، والضحاك، وسعيد بن جبير.
وقيل: الروح جند من جنود الله ليسوا ملائكة قاله أبو صالح، ومجاهد، وقيل: هم أشراف الملائكة قاله مقاتل بن حيان.
وقيل: هم حفظة على الملائكة قاله ابن أبي نجيح.
وقيل: هم بنو آدم قاله الحسن، وقتادة.
وقيل: هم أرواح بني آدم تقوم صفاً وتقوم الملائكة صفاً، وذلك بين النفختين قبل أن تردّ إلى الأجسام قاله عطية العوفي.
وقيل: إنه القرآن قاله زيد بن أسلم.
وقوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} يجوز أن يكون بدلاً من ضمير {يتكلمون}، وأن يكون منصوباً على أصل الاستثناء، والمعنى: لا يشفعون لأحد إلاّ من أذن له الرحمن بالشفاعة أو لا يتكلمون إلاّ في حقّ من أذن له الرحمن وكان ذلك الشخص ممن {قال صَوَاباً} قال الضحاك، ومجاهد: {صواباً} يعني: حقاً.
وقال أبو صالح: لا إله إلاّ الله.
وأصل الصواب السداد من القول والفعل.
قيل {لا يتكلمون} يعني: الملائكة والروح الذين قاموا صفاً هيبة وإجلالاً إلاّ من أذن له الرحمن منهم في الشفاعة، وهم قد قالوا صواباً.
قال الحسن: إن الروح تقوم يوم القيامة لا يدخل أحد الجنة إلاّ بالروح، ولا النار إلاّ بالعمل.
قال الواحدي: فهم لا يتكلمون يعني: الخلق كلهم إلاّ من أذن له الرحمن، وهم المؤمنون والملائكة، وقال في الدنيا صواباً أي: شهد بالتوحيد، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى يوم قيامهم على تلك الصفة، وهو مبتدأ وخبره {اليوم الحق} أي: الكائن الواقع المتحقق {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ مَئَاباً} أي: مرجعاً يرجع إليه بالعمل الصالح؛ لأنه إذا عمل خيراً قرّبه إلى الله، وإذا عمل شرّاً باعده منه، ومعنى: {إلى رَبّهِ} إلى ثواب ربه، قال قتادة: مآباً: سبيلاً.
ثم زاد سبحانه في تخويف الكفار فقال: {إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً} يعني: العذاب في الآخرة، وكلّ ما هو آت، فهو قريب، ومثله قوله: {كَأَنَّهُمْ يوم يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها} [النازعات: 46] كذا قال الكلبي، وغيره.
وقال قتادة: هو عذاب الدنيا؛ لأنه أقرب العذابين.
قال مقاتل: هو قتل قريش ببدر، والأوّل أولى لقوله: {يوم يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} فإن الظرف إما بدل من عذاب، أو ظرف لمضمر هو صفة له أي: عذاباً كائنا {يوم يَنظُرُ المرء} أي: يشاهد ما قدّمه من خير أو شرّ، وما موصولة أو استفهامية.
قال الحسن: والمرء هنا هو المؤمن أي: يجد لنفسه عملاً، فأما الكافر، فلا يجد لنفسه عملاً، فيتمنى أن يكون تراباً، وقيل: المراد به الكافر على العموم، وقيل: أبيّ بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، والأوّل أولى لقوله: {وَيَقول الكافر الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا} فإن الكافر واقع في مقابلة المرء، والمراد جنس الكافر يتمنى أن يكون تراباً لما يشاهده مما قد أعدّه الله له من أنواع العذاب، والمعنى: أنه يتمنى أنه كان تراباً في الدنيا فلم يخلق، أو تراباً يوم القيامة.
وقيل: المراد بالكافر أبو جهل، وقيل: أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وقيل: إبليس، والأوّل أولى اعتباراً بعموم اللفظ، ولا ينافيه خصوص السبب، كما تقدّم غير مرّة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} قال: منتزهاً {وَكَوَاعِبَ} قال: نواهد {أَتْرَاباً} قال: مستويات {وَكَأْساً دِهَاقاً} قال: ممتلئاً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله: {وَكَأْساً دِهَاقاً} قال: هي الممتلئة المترعة المتتابعة، وربما سمعت العباس يقول: يا غلام اسقنا، وادهق لنا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عنه دهاقاً، قال دراكاً.
وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً قال: إذا كان فيها خمر فهي: كأس، وإذا لم يكن فيها خمر، فليس بكأس.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه عنه أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس، وأيد، وأرجل ثم قرأ: {يوم يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} قال: هؤلاء جند، وهؤلاء جند».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس {يوم يَقُومُ الروح} قال: هو ملك من أعظم الملائكة خلقاً.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: الروح في السماء الرابعة، وهو أعظم من السموات والجبال ومن الملائكة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكاً من الملائكة يجيء يوم القيامة صفاً واحدًّا.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: إن جبريل يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار ترعد فرائصه فرقاً من عذاب الله، يقول: سبحانك لا إله إلاّ أنت ما عبدناك حق عبادتك، ما بين منكبيه، كما بين المشرق والمغرب، أما سمعت قول الله: {يوم يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً}.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله: {يوم يَقُومُ الروح} قال: يعني: حين تقوم أرواح الناس مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تردّ الروح إلى الأجساد.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً {وَقال صَوَاباً} قال: لا إله إلاّ الله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة قال: «يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم، والدواب، والطير وكلّ شيء، فيبلغ من عذاب الله أن يؤخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً، فذلك حين يقول الكافر {الكافر يا ليتنى كُنتُ ترابا}». اهـ.

.قال القاسمي:

سورة النبأ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ} أي: هؤلاء المشركون بالله ورسوله.
قال ابن جرير: وذلك أن قريشاً جعلت- فيما ذكر عنها- تختصم وتتجادل في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الإقرار بنبوته، والتصديق بما جاء به من عند الله تعالى، والإيمان بالبعث؛ فقال الله تعالى لنبيه: فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون؟.
وفي وعن في هذا الموضع بمعنى واحد. انتهى.
والاستفهام للتفخيم أو للتبكيت. والتفاعل إما على بابه، أو هو بمعنى فَعَل، والمعنى على الأول: يتساءلون فيما بينهم، وعلى الثاني: يسألون الرسول صلوات الله عليه وسلام، أو المؤمنين. قيل: مجيء تفاعل بمعنى فعل إذا كان في الفاعل كثرة، مراعاة لمعنى التشارك بقدر الإمكان، ونوقش بأن تفاعل يكون بمعنى فعل كثيراً وإن لم يتعدد فاعله، كتوانى زيد وتدانى الأمر، بل حيث لا يمكن التعدد نحو: {تعالى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 63].
وقوله: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} بيان للمفخم شأنه، أو للمبكت من أجله.
{الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} أي: منقسمون، بعضهم يجحدهُ وآخر يرتاب فيه.
{كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} ردع للمتسائلين ووعيد لهم؛ والتكرير للمبالغة لحذف مفعول العلم، فإما أن يقدر سيعلمون حقيقة الحال وما عنه السؤال، أو سيعلمون ما يحلُّ بهم من العقوبات والنكال؛ فتكريره مع الإبهام، يفيد مبالغة. وفي {ثُمَّ} إشعار بأن الوعيد الثاني أشد؛ لأنها هنا للبعد والتفاوت الرتبيّ، فكأنه قيل: ردع وزجر لكم شديد، بل أشد وأشد. وبهذا الاعتبار صار كأنه مغاير لما قبله.
ولذا خص عطفه بـ: {ثُمَّ} غالباً. هذا ملخص ما في (العناية).
ثم ذكّرهم تعالى بدلائل قدرته وآيات رحمته، بقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} أي: فراشاً وموطئاً تتمهدونها وتفترشونها.
{وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} أي: للأرض، أي: أرسيناها بالجبال كما يَرسي البيت بالأوتاد؛ حتى لا تميد بأهلها فيكمل كون الأرض مهاداً بسبب ذلك.
قال الإمام مفتي مصر: وإنما كانت الجبال أوتاداً لأن بروزها في الأرض كبروزِ الأوتاد المغروزة فيها؛ ولأنها في تثبيت الأرض ومنعها من المَيَدان والاضطراب، كالأوتاد في حفظ الخيمة من مثل ذلك، كأن أقطار الأرض قد شدت إليها، ولولا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب بما في جوفها من الموادّ الدائمة الجيَشان.
{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} أي: ذكوراً وإناثاً.
قال الإمام: ليتمَّ الائتناس والتعاون على سعادة المعيشة وحفظ النسل وتكميله بالتربية.
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي: راحة ودَعَة، يريح القوى من تعبها ويعيد إليها ما فقد منها. إطلاقاً للملزوم وهو السبات بمعنى النوم، وإرادة لّلازم وهو الاستراحة.
وقيل: السبات هو النوم الممتد الطويل السكون؛ ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم: إنه مسبوت وبه سبَات. ووجه الامتنان بذلك ظاهر؛ لما فيه من المنفعة والراحة، لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبان شيئاً من الراحة. وقد أفاض السيد المرتضى في(أماليه) في لطائف تأويل هذه الآية.
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} أي: كاللباس بإحاطة ظلمته بكل أحد، وستره لهم.
قال الرازي: ووجه النعمة في ذلك أن ظلمة الليل تستر الْإِنْسَاْن عن العيون إذا أراد هرباً من عدوّ أو بياتاً له، أو إخفاء ما لا يحب الْإِنْسَاْن إطلاع غيره عليه قال المتنبي:
وكمْ لِظَلامِ الليلِ عنْديَ منْ يَدٍ ** تخبِّر أن المانوية تَكْذِبُ

وأيضاً، فكما أن الْإِنْسَاْن بسبب اللباس، يزداد جماله وتتكامل قوته ويندفع عنه أذى الحر والبرد، فكذا لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم يزيد في جمال الْإِنْسَاْن وفي طراوة أعضائه وفي تكامل قواه الحسية والحركية، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني وأذى الأفكار الموحشة.
{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} أي: وقت معاش؛ إذ فيه تتقلب الخلق في حوائجهم ومكاسبهم.
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} قال الرازي: أي: سبع سماوات شداداً جمع شديدة، يعني محكمة قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الزمان، لا فطور فيها ولا فروج.
وقال الإمام: السبع الشداد: الطرائق السبع، وهي ما فيه الكواكب السبعة السيارة المشهورة؛ وخصها بالذكر لظهورها ومعرفة العامة لها.
{وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} أي: متلألئاً وقَّاداً، يعني الشمس.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} أي: السحائب إذا أعصرت، أي: شارفت أن تعصرها الرياح.
{مَاء ثَجَّاجاً} أي: منصباً متتابعاً.
{لِنُخْرِجَ بِهِ حبًّا وَنَبَاتاً} قال ابن جرير: الحَبُّ كل ما تضمنه كمام الزرع التي تحصد. والنبات: الكلأ الذي يُرعى من الحشيش والزروع.
وقال الزمخشريّ: يريد ما يُتقوَّت من نحو الحنطة والشعير، وما يعلف من التبن والحشيش. كما قال: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 54].
{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} أي: حدائق ملتفة الشجر، مجتمعة الأغصان.
قال الرازي: قدم الحَب لأنه الأصل في الغذاء، وثنى بالنبات لاحتياج الحيوانات إليه؛ وأخر الجنات لأن الحاجة إلى الفواكه ليست بضرورية، ثم قال: وكان الكعبي من القائلين بالطبائع. فاحتجَّ بقوله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حبًّا} إلخ على بطلان قول من قال: إنه تعالى لا يفعل شيئاً بواسطة شيء آخر، أي: ارتباط المسببات بالأسباب مما بنى عليه- سبحانه- بحكمته الباهرة نظامَ العمران.
{إِنَّ يوم الْفَصْلِ} أي: يوم يفصل بين الناس ويفرق السعداء من الأشقياء، باعتبار تفاوت الأعمال، وهو يوم القيامة {كَانَ} أي: عند الله وفي علمه وحكمه {مِيقَاتاً} أي: حدًّا معيناً ووقتاً مؤقتاً، ينتهي الخلق إليه ليرى كلٌ جزاء عمله {يوم يُنفَخُ فِي الصُّورِ} بدل من {يوم الْفَصْلِ} أو عطف بيان، كناية عن اتصال الأرواح بالأجساد، ورجوعها بها إلى الحياة والحشر في الآخرة، كما قال القاشاني والشهاب.
وقال الإمام: النفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق:
{فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68]، وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور، وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور.
{فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} أي: فِرَقاً مختلفة، كل فرقة مع إمامهم، على حسب تباين عقائدهم وأعمالهم وتوافقها.
{وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً} قال ابن جرير: أي: وشققت السماء فصدعت، فكانت طُرقاً، وكانت من قبلُ شداداً لا فطورَ فيها ولا صدوع.
وقال القاضي فيما نقله الرازيّ: وهذا الفتح هو معنى قوله: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] و{إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ} [الانفطار: 1]؛ إذ الفتح والتشقق والتفطر تتقارب، وهذا كما قال ابن جرير: متين للغاية، وتعقب الرازي له، وقوف مع الألفاظ لا يفيد، لاسيما والأصل هو التفسير بالنظائر والأشباه.
{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} أي: رفعت من أماكنها في الهواء، وذلك إنما يكون بعد تفتيتها وجعلها أجزاء متصاعدة كالهباء. وفي الآية تشبيه بليغ، والجامع أن كلاً منهما يُرى على شكل شيء، وليس به، فالسراب يرى كأنه بحر وليس كذلك، والجبال إذا فتتت وارتفعت في الهواء ترى كأنها جبال وليست بجبال، بل غبار غليظ متراكم، يرى من بعيد كأنه جبل.
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} أي: موضع رصد، يرصد فيه خزنتها من كان يكذب بها وبالمعاد. على أن {مِرْصَاداً} اسم مكان، أو مجدّة في ترصدهم وارتقاب مقدمهم، على أنه صيغة مبالغة.
{لِلْطَّاغِينَ مَآباً} أي: للذين طغوا في الدنيا، فتجاوزوا حدود الله استكباراً على ربهم، منزلاً ومرجعاً يصيرون إليه.
{لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} أي: دهوراً متتابعة إلى غير نهاية، كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الأحزاب: 65]، {لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً} أي: روحاً وراحة {وَلَا شَرَاباً}
{إِلَّا حَمِيماً} أي: ماءً حارّاً انتهى غليانُه {وَغَسَّاقاً} أي: صديداً، وهو ما يخرج من جلودهم مما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها، فيُسقَونه.
{جَزَاء وِفَاقاً} أي: جُوزوا بذلك جزاءً موافقاً لما ارتكبوه من الأعمال وقدَّموه من العقائد والأخلاق.
{إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} [27- 29]
{إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً وكذبوا باياتنا كذابا} قال القاشاني: أي: ذلك العذاب لأنهم كانوا موصوفين بهذه الرذائل من عدم توقع المكافآت والتكذيب بالآيات، أي: لفساد العمل والعلم، فلم يعملوا صالحاً رجاء الجزاء، ولم يعملوا علماً فيصدقوا بالآيات.
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} قال القاشاني: أي: كل شيء من أعمالهم ضبطناه بالكتابة عليهم في صحائف نفوسهم.
وقال الرازيّ: المراد من قوله: {كِتَاباً} تأكيد ذلك الإحصاء والعلم، وهذا التأكيد إنما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر؛ فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال؛ لأنه واجب لذاته. انتهى.
وهو بمعنى ما نقله الشهاب، أنه تمثيل لإحاطة علمه بالأشياء لتفهيمنا، وإلا فهو تعالى غني عن الكتابة والضبط. ومذهب السلف الإيمان بهذه الظواهر وتفويض تأويلها إلى الله تعالى.
{فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} أي: يقال لهم ذاك؛ تقريعاً وغضباً وتأنيباً لهم من تخفيف العذاب، وإعلاماً بمضاعفته.
ولما ذكر وعيد الكفار، تأثره بوعد الأبرار بقوله سبحانه: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} أي: فوز بالنعيم، ونجاة من النار التي هي مآب الطاغين.
{حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} الحدائق جمع حديقة، وهي البستان فيه أنواع الشجر المثمر المحوط بالحيطان المحدقة به. والأعناب معروفة.
قال ابن جرير: أي: وكروم وأعناب، فاستغنى بالأعناب عنها.
{وَكَوَاعِبَ} أي: بنات فلّكت ثديّهن، أي: استدارت مع ارتفاع يسير {أَتْرَاباً} أي: متساويات في السِّن.
{وَكَأْساً دِهَاقاً} أي: ملأى من خمر لذة للشاربين.
{لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا} أي: في الجنة {لَغْواً} أي: باطلاً من القول {وَلَا كِذَّاباً} أي: مكاذبة، أي: لا يكذب بعضهم بعضاً.
قال الإمام: اللغو والتكذيب مما تألَّم له أنفس الصادقين، بل هو من أشد الأذى لقلوبهم، فأراد الله إزاحة ذلك عنهم.
{جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء} أي: جزاء لهم على صالح أعمالهم، تفضُّلاً منه تعالى بذلك الجزاء {حِسَاباً} أي: كافياً، أو على حسب أعمالهم.
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} قال ابن جرير: أي: لا يملكون أن يخاطبوا اللهَ.
قال: والمخاطب المخاصم الذي يخاصم صاحبه.
وقال غيره: أي: لا يملِّكهم اللهُ منه خطاباً في شأن الثواب والعقاب، بل هو المتصرِّف فيه وحده، وهذا كما تقول: ملكت منه درهماً فـ: من ابتدائية متعلقة بـ: {يَمْلِكُونَ}، وعلى ما ذكره ابن جرير من أن المعنى: لا يملكون أن يخاطبوه بشيء من نقص العذاب، فـ {مِنْهُ} صلة {خِطَاباً} كما تقول: خاطبت منك، على معنى: خاطبتك، كبعت زيداً، أو بعت من زيد، فـ {مِنْهُ} بيان مقدم على المصدر لا صلة {يَمْلِكُونَ}، وقد قرئ: رب، و: الرحمن بالجر والرفع. وقرئ بجر الأول ورفع الثاني.
{يوم يَقُومُ الرُّوحُ} أي: جبريل عليه السلام، وهو المعبَّر عنه بروح القدس في آية أخرى، وفيه أقوال أخُر نقلها ابن جرير. وما ذكرناه أصوبها؛ والتنزيل يفسر بعضه بعضاً. ثم رأيت الرازي نقل عن القاضي اختياره، قال: لأن القرآن دلَّ على أن هذا الاسم اسم جبريل عليه السلام. وثبت أن القيام صحيح من جبريل، والكلام صحيح منه، ويصح أن يؤذن له، فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه، أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام؟! وقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً} قال القاشانيّ: أي: صافِّين في مراتبهم، كقوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164].
وقال الرازيّ: يحتمل أن يكون المعنى صفاً واحدًّا، ويحتمل أنه صفان، ويجوز صفوفاً. والصف في الأصل مصدر، فينبئ عن الواحد والجمع، ورجح بعضهم الأخير لآية: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22]، انتهى.
وقوله تعالى: {لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقال صَوَاباً} أي: لا يتكلمون في الشفاعة كقوله: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، والضمير للملائكة أو أعم كقوله: {يوم يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود: 105].
قال الزمخشري: هما شريطتان: أن يكون المتكلم منهم مأذوناً له في الكلام، وأن يتكلم بالصواب، فلا يشفع لغير مرتضى لقوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28].
{ذَلِكَ الْيوم الْحَقُّ} أي: الواقع الذي لا يمكن إنكاره. و{الْحَقُّ} صفة أو خبر.
{فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} قال ابن جرير: أي: فمن شاء اتخذ بالتصديق بهذا اليوم الحق، والاستعداد له والعمل بما فيه، النجاةَ له من أهواله، مرجعاً حسناً يؤوب إليه.
{إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} يعني عذاب الآخرة وقربه؛ لأن مبدأه الموت {يوم يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي: من خير أو شرّ، أي: ينظر جزاءه:
{وَيَقول الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} أي: مثله لم أصب حظّاً من الحياة؛ لما يلقى من عذاب الله الذي أعدّ لأمثاله. وقاناه اللهُ بمنِّه وكرمِه. اهـ.